فصل: بصيرة في الأمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}.
وقوله تعالى: {خلت} أي انفردت وخلا فلان بفلان أي انفرد به.. وخلا المكان من نزيله أي أصبح المكان منفردا، والنزيل منفردا ولا علاقة لأحدهما بالآخر.. الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)} من الآية 14 سورة البقرة.
أي انفردوا هم وشياطينهم ولم يعد في المكان غيرهم؛ ولقد قلنا إن كل حدث لابد أن يكون له محدث، ولا حدث يوجد بذاته، وكل حدث يحتاج إلي زمان ويحتاج إلي مكان.. فإذا قال الحق تبارك وتعالى: {تلك أمة قد خلت} فمعناه إنه انقضى زمانها وانفرد عن زمانكم. والمقصود بقوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} أي انتهى زمانها.. وتلك اسم إشارة لمؤنث مخاطب وأمة هي المشار إليه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولعامة المسلمين.. والله سبحانه وتعالى حين يقول: {تلك أمة} فكأنها مميزة بوحدة عقيدتها ووحدة إيمانها حتى أصبحت شيئا واحدا.. ولذلك لابد أن يخاطبها بالوحدة.. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} سورة الأنبياء.
وتلك هنا إشارة لأمة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب.. هم جماعة كثيرة لهم عقيدة واحدة.
وقوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}.. أي تلك جماعة على دين واحد تحاسب عما فعلته كما ستحاسبون أنتم على ما فعلتم.. ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إن إبراهيم كان أمةً} من الآية 120 سورة النحل.
وإبراهيم فرد وليس جماعة؟ نقول نعم إن إبراهيم فرد ولكن اجتمعت فيه من خصال الخير ومواهب الكمال ما لا يجتمع إلا في أمة.
وقوله تعالى: {قد خلت} يراد بها إفهام اليهود ألا ينسبوا أنفسهم إلي إبراهيم نسبا كاذبا لأن نسب الأنبياء ليس نسبًا دمويا أو جنسيا أو انتماء.. وإنما نسب منهج واتباع.. فكأن الحق يقول لليهود لن ينفعكم أن تكونوا من سلالة إبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب.. لأن نسب النبوة هو نسب إيماني فيه اتباع للمنهج والعقيدة.. ولا يشفع هذا النسب يوم القيامة لأن لكل واحد عمله.
قوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}.. الكسب يؤخذ على الخير والاكتساب يؤخذ في الشر لأن الشر فيه افتعال. أننا لابد أن نلتفت ونتنبه إلي آيات القرآن الكريم حتى نستطيع أن نرد على أولئك الذين يحاولون الطعن في القرآن.. فلا يوجد معنى لآية تهدمها آية أخرى ولكن يوجد عدم فهم. يأتي بعض المستشرقين ليقول هناك آية في القرآن تؤكد أن الله سبحانه وتعالى يعطي بالأنساب وذلك في قوله جل جلاله:
{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} من الآية 21 سورة الطور.
الأبناء مؤمنون، وقوله تعالى: {ألحقنا بهم ذريتهم} كلمة ألحقنا تأتي عندما تلحق ناقصا بكامل.. فإذا كان الاثنان مؤمنين فكأنك تزيد درجة الأبناء إكراما لآبائهم المؤمنين.. نقول إن الإيمان شيء والعمل بمقتضى الإيمان شيء آخر.. الأب والذرية مؤمنون ولكن الآباء تفانوا في العمل والأبناء ربما قصروا قليلا.. ولكن هنا رفع درجة بالنسبة للمؤمنين أي لابد أن يكون الأب والذرية مؤمنين.. ولكن غير المؤمنين مبعدون ليس لهم علاقة بآبائهم انقطعت الصلة بينهم بسبب الإيمان والكفر.. فالآباء لهم أعمال حسنة كثيرة.. والأبناء لهم أعمال حسنة أقل.. ينزل الله الأبناء في الجنة مع آبائهم لأن الإيمان واحد.
وقوله تعالى: {وما ألتناهم} أي أنقصناهم من عملهم من شيء.. إذن فالآباء والذرية مأخوذون بإيمانهم، والله بفضله يلحق الأبناء بالآباء.
قوله تعالى: {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}.. هذه عملية الإيمان في العقيدة.. قد يقول البعض إن الله تبارك وتعالى يقول: {كل امرئ بما كسب رهين} من الآية 21 سورة الطور.
ويقول سبحانه: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)} سورة النجم.
فكيف يأخذ الأبناء جزاء بدون سعي؟ نقول افهموا النصوص جيدا. قوله تعالى: {وإن ليس للإنسان إلا ما سعى} تحدد العدل ولكنها لا تحدد الفضل الذي يعطيه الله سبحانه لمن شاء من عباده، وهذا يعطي بلا حساب.. ثم من الذي قال إن هذا ليس من سعيهم؟ إن إلحاق الأبناء المؤمنين بالمنزلة العالية لآبائهم تكريم لعمل الآباء وليس زيادة لعمل الأبناء. ولقد روى لنا العلماء أن ولدا كان مؤمنا طائعا عابدا وأبوه كان مسرفا على نفسه.. فلما مات الأب حزن عليه ابنه ولكنه رأى أن أباه جالس فوق رأسه ومعه واحدة من الحور العين تؤنسه.. فتعجب الابن كيف ينال أبوه هذه المكافأة وقد كان مسرفا على نفسه فسأله: كيف وصلت لهذه المنزلة؟ فقال الأب أي منزلة.. قال الابن أن تكون معك واحد من الحور العين.. فقال الأب وهل فهمت أنها نعيم لي.. قال الابن نعم.. يقول: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58)} سورة يونس.
إذن أنت في الآخرة ستفرح بفضل الله ورحمته أكثر من فرحك بعملك الصالح.
مصداقا صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يدخل الجنة أحدًا عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته» ربما يأتي أحد ويقول الصلاة على الميت ما هو القصد الشرعي منها.. إن كانت تفيده فستكون الفائدة زيادة على عمله.. وإن لم تكن تعطيه أكثر من عمله فما فائدتها؟.
نقول مادام الشرع كلفنا بها فلها فائدة. وهل تظن أن الصلاة على الميت ليست من عمله؟ هي داخلة في عمله لأنه مؤمن وإيمانه هو الذي دفعك للصلاة عليه.. والذي تدعو له بالخير وبالرحمة وبالمغفرة ويتقبلها الله.. أيقال أنه أخذ غير عمله؟ لا؛ إنك لم تدع له إلا بعد أن أصابك الخير منه.. ولكنك لا تدعو مثلا لإنسان أخذ بيدك إلي خمارة أو إلي فاحشة أو إلي منكر.. بل تدعو لمن أعطاك خيرا فإن استجاب الله لك فهو من عمالله سبحانه وتعالى يقول إن ما كان يعمله من سبقكم من أمم لا تسألون عنه.. وإن كنتم تدعون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا نقل لكم أنتم لن تسألوا عما كان يعمل إبراهيم ولكن عليكم أنفسكم.. السؤال يكون عن عملكم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}.
{تلْكَ} مُبْتَدَأ، و{أمَّةٌ} خبره، ويجوز أنْ تَكُونَ {أُمَّة} بدلًا من {تلك}، و{قد خلت} خبر للمبتدأ.
وأصل {تلك}: تي، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين، فإن قيل: لِمَ لَمْ تسكر اللام حتى لا تحذف الياء؟
فالجواب: أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين.
وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسمن وليس ثَمَّ شيء محذوف.
وقوله: {قد خلت} جملة فعلية في محل رفع صفة ل {أُمَّة} إنْ قيل إنها خبر {تلك} أو خبرُ {تلك} إن قيل: إن {أمة} بدل من {تلك} كما تقدم، و{خلت} أي صارت إلى الخلاء وهي الأرض التي لا أنيس بها، والمراد به ماتت، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم.
والأمة: الجماعة، وقيل: الصنف.
قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون صفة ل {أمة} أيضًا، فيكون محلها رفعًا.
والثاني: أن تكون حالًا من الضمير في {خلت} فحملها نصب، أي: خلت ثابتًا لَهَا كَسْبُها.
والثالث: أن تكون استئنافًا فلا محلّ لها.
وفي {ما} من قوله: {ما كسبت} ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها بمعنى الذي.
والثاني: أنها نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: كسبته، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول.
والثالث: أن تكون مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور، ويكون المصدر واقعًا موقع المفعول أي: لها مكسوبًا أو يكون ثَمَّ مضاف، أي: لها جزاء كسبها.
قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إن قيل: إن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنف كانت هذه الجملة عطفًا عليه.
وإن قيل: إنه صفة أو حال فلا.
أما الصفة فلعدم الرابط فيها.
وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها، وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان، و{ما} من قوله: {ما كسبتم} ك{ما} المتقدمة.
قوله: {وَلاَ تُسْأَلُونَ} هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ، ومعناها التوكيد لما قبلها؛ لأنه لما تقدم أن أحدًا لا ينفعه كسب أحد، بل هو مختص به إن خَيْرًا وإن شرًّا، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم، فأخبروا بذلك.
و{ما} يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصلة اسمية، أو حرفية، أو نكرة، وفي الكلام حذف، أي: ولا يُسْألون عما كنتم تعملون.
قال أبو البقاء: ودلّ عليه: لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم. انتهى.
ولو جُعِل الدالُّ قوله: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} كان أوْلى؛ لأنه مقابلة. اهـ. بتصرف يسير.

.بصيرة في الأمة:

الأُمَّة لغة: الرّجُل الجامع للخير، والإِمام، وجماعةٌ أَرسل إِليهم رَسُول، والجيل من كل حيّ، والجنس، ومَن هو على الحقّ، ومُخالف لسائر الأَديان، والحِين، والقامة، والأُمُّ، والوجه والنشاط، والطَّاعة، والعالِم، ومن الوجه: مُعظمُه، ومن الرجل قومه. وأُمَّه الله تعالى: خَلْقه.
وقد ورد في نصّ القرآن على عشرة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الصَّف المصفوف {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أَى صفوف.
الثانى: بمعنى السّنين الخالية: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أَى بعد سنين.
الثالث: بمعنى الرّجل الجامع للخير: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}.
الرابع: بمعنى الدّين، والمِلَّة: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}.
الخامس: بمعنى الأمَم السّالفة، والقرون الماضية: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ}.
السّادس: بمعنى القوم بلا عدد {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}.
السابع: بمعنى القوم المعدود: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا} أَى أَربعين رجلًا.
الثامن: بمعنى الزَّمان الطَّويل: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}.
التاسع: بمعنى الكُفَّار خاصّة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ}.
العاشر: بمعنى أَهل الإِسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى صِنفًا واحدًا، وعلى طريقة واحدة في الضَّلال والكفر، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَى في الإِيمان، {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أَى جماعة يتَخَيَّرُون العلم، والعمل الصَّالح، أَى يكونون أُسْوة لغيرهم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (135):

قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}.

.سبب النزول:

قوله: {وَقالوا كونوا هودًا أَو نَصارى تَهتَدوا} قال ابن عباس: نزلت في رءوس يهود المدينة: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن. وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك ودعوهم إلى دينهم. اهـ.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر تعالى أنهم تركوا السنة في تهذيب أنفسهم بالاقتداء في الاهتداء بالأصفياء من أسلافهم وبين بطلان ما هم عليه الآن من كل وجه وأوضح أنه محض الضلال بين أنه عاقبهم على ذلك بأن صيرهم دعاة إلى الكفر، لأن سنته الماضية سبقت ولن تجد لسنته تحويلًا أن من أمات سنة أحيى على يديه بدعة عقوبة له.
قال الحرالي: لأنهما متناوبان في الأديان تناوب المتقابلات في الأجسام فقال تعالى معجبًا منهم عاطفًا على قوله: {وقالوا لن يدخل} [البقرة: 111] {وقالوا} أي الفريقان من أهل الكتاب لأتباع الهدى {كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا} أي لم يكفهم ارتكابهم للباطل وسلوكهم طرق الضلال حتى دعوا إلى ما هم عليه ووعدوا بالهداية الصائرة إليه فأمره تعالى بأن يجيبهم أنه مستن بسنة أبيهم لا يحول عنها كما حالوا فقال موجهًا الخطاب إلى أشرف خلقه لعلو مقام ما يخبر به وصعوبة التقيد به على النفس: {قل بل} مضربًا عن مقالهم، أي لا يكون شيئًا مما ذكرتم بل نكون أو نلابس أنا ومن لحق بي من كمل أهل الإسلام {ملة إبراهيم} ملابسة نصير بها إياها كأننا تجسدنا منها، وهو كناية عن عدم الانفكاك عنها، فهو أبلغ مما لو قيل: بل أهل ملة إبراهيم.
قال الحرالي: ففيه كمال تسنن محمد صلى الله عليه وسلم في ملته بملة إبراهيم عليه السلام الذي هو الأول لمناسبة ما بين الأول والآخر، وقد ذكر أن الملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظلم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا، فكان أتم ما أبداه نور العقل ملة إبراهيم {حنيفًا} أي لينًا هشًا سهلًا قابلًا للاستقامة مائلًا مع داعي الحق منقادًا له مسلمًا أمره إليه، لا يتوجه إليه شيء من العشاوة والكثافة والغلظة والجمود التي يلزم منها العصيان والشماخة والطغيان، وذلك لأن مادة حنف بكل ترتيب تدور على الخفة واللطافة، ويشبه أن تكون الحقيقة الأولى منها النحافة، ويلزم هذا المعنى الانتشار والضمور والميل، فيلزمه سهولة الانقياد والاستقامة، ويكشفه آية آل عمران {ولكن كان حنيفًا مسلمًا} [آل عمران: 67] فبذلك حاد عن بنيات طرق الخلق في انحرافهم عن جادة طريق الإسلام.
وقال الحرالي: الحنيف المائل عن متغير ما عليه الناس عادة إلى ما تقتضيه الفطرة حنان قلب إلى صدق حسه الباطن.
ولما أثبت له الإسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: {وما كان من المشركين} قال الحرالي: فيه إنباء بتبرئة كيانه من أمر الشرك في ثبت الأمور والأفعال والأحوال وفي إفهامه أنه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم في الكمال الخاتم كما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم منه في الابتداء الفاتح، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قل إن صلاتي} [الأنعام: 162] إلى قوله: {وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 163] فهذه أولية رتبة الكمال التي هي خاصة به ومن سواه فهو منه فيها، لأن نفي الشيء يفهم البراءة واللحاق بالمتأصل في مقابله، فمن لم يكن مثلًا من الكافرين فهو من المؤمنين، لأنه لو كان هو المؤمن لذكر بالصفة المقابلة لما نفى عنه، لما في ذلك من معنيي إثبات الوصف ونفي مقابله، ومثل هذا كثير الدور في خطاب القرآن، وبين من له الوصف ومن هو منه تفاوت ما بين السابق واللاحق في جميع ما يرد من نحوه يعني ومثل هذا التفاوت ظاهر للفهم خفي عن مشاهد العلم، لأن العلم من العقل بمنزلة النفس؛ والفهم من العقل بمنزلة الروح، فللفهم مدرك لا يناله العلم، كما أن للروح معتلى لا تصل إليه النفس، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى على الوجود. انتهى.